من أصعب الحالات أن يكون الذهن فارغاً و القلم وثّاب للكتابة, و هي حالة تتناقض فيها القدرات الجسمية مع القدرات العقلية فتتصارع و لا تجد لها ساحة الا نفس الكاتب الضعيف, فتضرم النار في ضلوعه و تسري من عروقه لباقي جسده, فيتوقف عن كل شيء حتى عن الكتابة, و لكن ما يلبث أن يرى حروفه تتراقص أمامه متفرقة متباعدة, فيحتار في تأليفه, و يبقى تأليفها عنده كجمع خرز المسبحة بعد انفراطها في وحل من ماء وطين, و ما أجمل التسبيح بذكر آلاء الله و نعمه في هذه الحالة, فهي من العبادة القلبية النافعة التي تفوق كثير من العبادات البدنية الفارغة من تمجيد الخالق.
و لو نظر الانسان و فتش لوجد تسبيحاً له في كل جماد و حي, و لو أطرق السمع لسمع تحميد الجمادات قبل الحيوانات, فسبحان من سبحت بحمده الأكوان, تلتف اليمنة و اليسرى فلا يخطف بصرك إلا كل جميل و خلق مبدع متقن, تتفكر في الجبال و السهول و الوديان, فلا تستطيع جمع الحِكم في رأس أو قرطاس, فلا يسعفك غير التسبيح, و تنظر للحيوانات في الأرض و على الأرض و في جو السماء فيحتار عقلك فتقول سبحان الله, تتفكر في نفسك, فتجد الأعضاء كل في مكانه, الرأس و ما حوى و البطن و ما حوت, كلك على بعضك معجزه, تتفكر في خلاياك و عروقك, في نبضات القلب و تدفق الدم, و حركة الماء و الغذاء كلها تتم في داخلك و أنت مشغول بكتابة أو جالس على أريكه, فلا تشعر إلا و كل شيء في مكانه و وقته بنظام, تتفكر في اختلاف الناس ألوانهم و أذواقهم و أرزاقهم, فلا تملك الا التسبيح بحمده, تأخذ الدهشة و أنت ترى الحي يخرج من حي فإذا هو بشر يتحرك و يأكل و يشرب, و تتفكر في قيام أمر الكون على أحكم نظام فلا شمس تتقدم على قمر و لا ليل سابق للنهار, فتقول سبحان الله.
و تعجب و لا ينقطع عجبك بعد هذه كله أن لا يعبد و لا يمجد سبحانه و تعالى, (و ما قدروا الله حق قده), فسبحان الله و الحمد لله أولا و آخراَ.